الموقف الذي يذكره طارح الشبهة هو إمتداد لقصة الخصم الذي جاء لداود عليه السلام وهو في محرابه في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (21) سورة ص.
إن الله مدح داود مدحاً عظيما فوصفه بأجل الصفات المناسبه لمقام النبيين حقا فقال ان له يدا قويه فى مرضاة الله تعالى وانه كثير الرجوع الى الاعمال الصالحه التى ترضى الله تعالى , وانه لكثره تسبيحه وعباده ربه سخر الله له الجماد والحيوان الاعجم لتسبيح الله معه, ولا ريب فى ان ذلك علامه قبول , ودليل الرضا اذ لو لم يرض الله عنه لما أطلعه على اسرار خلقه التى لا يطلع عليها الا من اصطفاه من عباده , ولو لم يقبله لما افهمه تسبيح الجماد والحيوان ليزداد بذلك نشاطا فى عباده ربه , وتفانيا فى الاخلاص له , ثم اخبر الله سبحانه بأنه ملكه ايضا ملكا عظيما وأنعم عليه بالحكمه وهى العلم النافع فى الدين والدنيا , انعم عليه بنعمه الهدايه الى الصواب فى فصل الخصومات.
كانت هذه المقدمة ضرورية لإسباغ قول الحق على ملك إسرائيل ونبي كريم مقرّب وهو داود عليه السلام حتى يكون القارئ على بيّنة على عِظَم هذا النبي في الإسلام, و على هذا يكون قوله وهل اتاك نبأ الخصم يفهم كالآتي:
ان داود عليه السلام كان يقضى بين الناس وقد رأى ان يزيد من حرسه ارهابا للاعداء كما اشاره الى ذلك سبحانه (( وشددنا ملكه )) فكان ذلك سببا فى تعطيل القضاء بين الناس الذين لهم قلوب ضعيفه ترهب القوه فلم يتمكنوا من عرض قضاياهم فأراد الله سبحانه ان يلفت نظره لما عساه أن يقع بسبب اهمال القضاء والترفع عن مستوى الناس الضعاف فكان موجودا فى المسجد والحرس يحدق به فجاء ملكان فى صوره خصمين وتسورا المحراب الى اخر القصه ولهذا لما سمع القصه من احدهما دهش وتسرع فى الحكم قبل ان يسمع إجابة الخصم الاخر فلما انصرف الملَكَان ظن داود ان هذه فتنه فاستغفر ربه فالاستغفار كان فى تسرعه فى الحكم ومن الغفله عن أمر القضاء وهو ليس بكبيرة , انما هو غير لائق بمقام النبوه فى الجمله فهو ذنب بالنسبه لذلك المقام العظيم فقط . وما يرد على ذلك من نسبه الكذب الى الملائكه فهو غير سديد لإن الغرض منه تمثيل الحادثه بصوره مؤثره ولا ريب فى ان تمثيل ذلك الآمر بهذه الصوره له قيمته فى نفس سيدنا داود ونفس من يسمعها بعده من الناس .
ولو فرضنا جدالا ان كلام النصارى والكتاب المقدس فى القصه وقعت بين داود عليه السلام و قائده اوريا (1) وقعت فيكون الدليل الاتى هو المنطقى:
ان الحادثه وقعت مع اوريا وامرأته حقيقيه ولكن ليس بهذه الصوره الشنيعه , بل الواقع ان أوريا خطب هذه المراه مجرد خطبه ولم يعقد عليها, والدليل هو ان الانجيل يقول على العذراء مريم أنها "إمرأة" يوسف النجار مع انها لم تتزوجه.(2)
ثم خطبها بعد ذلك ففضلت داود طبعا لانه ملك وأوريا لما علم كف عن امرها عن طيب خاطر ولكن الله تعالى اعتبر هذا العمل لا يتناسب مع مقام داود وان كان فى نفسه ليس جريمه تخل بمقام النبوه فعاتبه على هذا العمل وهذا هو الواقع الذى يقبله العقل ولكن اعداء الفضيله حرفوه الى هذا الحد المخزى وقد ورد عن الخليفه على بن طالب رضى الله عنه انه قال: "اذا سمعت أحد يقول فى داود ما يقوله أهل الكتاب أقمت عليه حد القذف" وهذا كلام حق يدل على فطنه ذلك الخليفه الراشد الجليل وتقديره لفضيله حق قدرها .
دفاع داود عن نفسه يقضى على افتراء الكاذبين :
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (78) سورة المائدة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــ
(1) وهذا أن النصارى واليهود يقولون أن داود عليه السلام كان يتمشى ذات ليلة على سطح قصره فرأى إمرأة تستحم وهي عارية إسمها (أوريا) فاشتهاها وزنا بها وأنجب منها سليمان عليه السلام, ويرون أن واقعة الزنا صحيحة ولهذا هم يحاولون أن يضعوا هذا الكذب الصريح في القرآن حتى يقولوا أنهم ليسوا وحدهم من يقول بزنا الملك داود عليه السلام والواقع أنها إختلاق منهم ومحاولة تجديف تم تفنيدها في هذا الجواب.
(2) والدليل على هذا في الكتاب المقدس أن مريم عليها السلام كانت تُسمى إمرأة يوسف النجار على الرغم من عدم وجود عقد بينهما ولكن فقط مجرد الخطوبة : "ولكن فيما هو متفكر في هذه الامور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك . لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس". (SVD) انجيل متى 1/20.